Thursday, December 13, 2007

طيب واللي فاتهم القطار؟ هل فيه حمارة توصلهم؟

منذ عدة سنوات - عندما كنت أعمل بالصحافة - كانت تلوح عليّ بين آن وآخر فكرة إجراء تحقيق صحفي عن المذيعين الذين يسجلون إعلانات التلفزيون، هؤلاء الذين لا نرى وجوههم أبدا ولكنهم يشكلون بأصواتهم - و من خلال العبارات الدعائية المختصرة التي يرددونها على أسماعنا ليل نهار - يشكلون جزءا من وعينا ومن اللزمات التي تحاصر عقولنا طوال الوقت فتصبح جزءا من خطابنا: ليه تدفع أكتر لما ممكن تدفع أقل؟
الحياة كما ينبغي أن تكون
وكان هناك صوتا معينا، صوتا أحس كأنني أعرفه، متميزا عن الباقين، أسمعه مع إعلانات معينة، إعلانات أمريكانا. صوتا يحمل معه، وبسبب المنتجات والخدمات التي يعلن عنها، تصوراً معيناً للحياة العصرية على النمط الغربي، صوت شيك، يصدر عن مصر "الجديدة" وليس مصر "البيئة" أو البلدي. هذا الصوت لن يعلن عن "عبد الرحيم عمرو، احتكم الأمر" أو شئ من هذا القبيل. من هو هذا الرجل كنت أسأل نفسي كثيرا ولكنني لم أبدأ هذا التحقيق الصحفي.
قريبا جدا إكتشفت عن طريق أحد الأعمدة الصحفية أن هذا الصوت ما هو الا صوت طارق نور "ذات نفسه" صاحب ومؤسس شركة أمريكانا للدعاية، صوت الحداثة والنظام الجديد.

يستفزني صوت طارق نور الآن بنبرته التي تؤكد أنها، أي أنه هو، يملك اليقين والحقيقة،، كالأب عندما يخاطب ابنه الشقي: "طيب لما ترمي السندويش على الأرض، مين يا حبيبي اللى حياكله؟ تك تك تك، كده غلط."
يهل علينا صوت طارق نور الآن عن طريق إعلانات لا تعرف بالضبط من القائمين عليها، إتحاد صناعات ما، أحد أذرعة النظام الجديد في أحد تجلياته الاقتصادية غالباً، ليقول لنا ، أي أجيال الشباب التي تمثل الغالبية العظمى من شعب هذا البلد، أننا يجب أن نكلف عن الجلوس "ع القهوة" وأن "نلحق بالقطار" والا فاتنا...
يستفزني هذا الاعلان وهذا الاستخدام الفج للصورة البلاغية للقطار.

يذكرني بمشهد من مسرحية "إنها حقا عائلة محترمة" التي تدعونا بشكل كوميدي الى رفض ازدواج القيم والمعايير الذي يخل بمنظومتنا الاخلاقية، أن نحقق ذاتنا بأن نعترف بحقيقتنا ونماهيها، لا أن نحاول أن نماهي صورا زائفة عن أنفسنا. في نهاية المسرحية تخرج كل من الشخصيات التابعة لسيطرة الاب السلطوي لتعلن له أنها تتمرد علي سلطويته، أنها ستخرج عن النظام لتحقق ذاتها قبل أن يفوت العمر وينقضي وتضيع الفرصة، يخرج عليه أبنائه وابنته وحتى حماته السابقة ليقولوا له أنهم سيرحلوا قبل أن يعدي الزمن من أمامهم ويخرج لهم لسانه ويقول لهم "راحت عليك يا حدق." الجملة التي يكررها كل من شخصيات المسرحية لا تتضمن اشارة الى القطار، لعل الزمن رجلا يمشي علي رجليه، ولكن لسبب ما كلمات شاهدت المسرحية، تخيلت الزمن راكبا قطارا وليس سائرا علي رجليه! ربما بسبب عمق الصورة البلاغية التي أصبحت جزءا من خطابنا والتي تشير الى أن القطار لا ينتظر أحداً...
كلها صوراً بلاغية لم تدخل خطابنا ومخيلاتنا كعرب سوى مع دخول السكة الحديد في منتصف القرن قبل الماضي. مثّل القطار لشعوب القرن التاسع عشر الانقلاب التكنولوجي بكل ما يحمل من معاني اقتصادية وثقافية. يأتي القطار في موعد محدد "تضبط عليه الساعة" التي تشير الى تقسيم جديد للوقت. القطار لا يأتي الظهر أو المغرب ولكنه يأتي الساعة 12. والقطار لا ينتظر أحدا حتي يأتي ليركبه، إذا لم يكن المرء في المكان المناسب في الوقت المناسب، أي على رصيف المحطة قبل قدوم القطار، فلن يلحق به، عليه أن يمشي أو يستقل حمارة أو يربح مكانه. الاستعداد اذا والسعي وإلا "تخلف" المرء، فعليا وبلاغيا.
والقطار أصبح في أدبنا وأدبياتنا رمزا لرحلة العمروللعيشة. قالت لي خالتي مرة عند وفاة جدتي أننا كلنا ركاب على القطار ولكننا نهبط منه في محطات مختلفة....
ويأتي اليوم طارق نور ويقول لي ألا أقعد ع القهوة وألحق بالقطار.

عن أي قطار يتحدثون؟ عن أي ركب؟ أما الاحرى بهم أن يتحدثوا عن سفينة مثلا؟ أم أنه يقصد أحد قطارات الموت التي اعتدنا عليها؟
من يا طارق بك هذا الشاب المتخيل الذي توجه اليه حديثك في الاعلان؟ ذلك الشاب العاطل الذي يفضل الجلوس على القهوة للعب الطاولة والدومينو على اللحاق بالقطار الذي سيقله الى العالم الآخر: عالم مصر الجديدة النظيفة، حيث الوظائف بلا واسطة، وحيث الترقية في العمل ولبس البدلة والكرافتة؟ في أحد حلقات الاعلان المسلسل - والتي لسبب ما لا تذاع كثيرا - يقوم أصدقاء الخير بمساعدة الشاب التعيس على تحسين منظره والاستحمام وحلاقة ذقنه وولبس البدلة قبل اجراء مقابلة عمل لكي يستطيع أن يحصل على وظيفة. من هو هذا الشاب الذي تتخيلونه؟ هو من صنع خيالكم، ألا تدرون؟ أسمع الناس من رجال الاعمال، في الحياة وفي التلفزيون، يتندرون كيف أن الشباب المصري لا يريد أن يعمل في بلده، ولا يريد أن تتسخ يداه، يبحث عن وظيفة مكتبية، ولا يمانع أن يغسل صحوناً ويمسح الارض ولكن ليس في بلده، مع أن الشغل مش عيب. "انظروا الى هؤلاء المتخلفين الذين ينفقون تحويشة عمرهم، وعمر آبائهم وجيرانهم وأولاد أخوتهم لينفقوها على مشاريع الهجرية الغير-شرعية" (لاحظ استخدام تعبير شرعي وغير شرعي، لماذا لا يسمونها غير قانونية وهو التعبير الأدق؟) يتندرون ويحكون القصة تلو الاخرى عن عدد المتقدمين للوظائف الكتابية بالمقارنة بفرص العمل في المصانع التي لا تجد من يعمل بها وتظل شاغرة. عن أي مصانع يتحدثون؟ عن المصانع التي تغلق أبوابها؟ أم المصانع التي ترفت عمالها؟ أم مصانع التعبئة التي ترفض تعيين العمال رسميا حتى لا يكون لهم أي مستحقات أو حقوق لديها؟ هل يعيبون على الشباب محاولة التأقلم مع الواقع الاجتماعي الذين يعيدون هم انتاجه كل يوم؟ لمّا الشغل مش العيب والمظاهر مش كل حاجة، لماذا تحكمون على الناس بالمظاهر، لماذا تصبح البدلة ضرورية في المقابلة والا لا وظيفة؟ وأي قهوة تلك التي يجلس عليها الشباب؟ من الذي يدفع ثمن المشاريب؟

كان الاحرى بطارق نور أن يحدثنا عن السفيينة. مصر الجديدة سفينة، إن تعلقت بها عبرت، إن لم تتعلق بها غرقت، وربنا معاك. فنحن ما زلنا نبحث موقفك الشرعي في حال غرق السفينة.
البلد بتتحرك.... ولكن لا أعتقد أنها تسير على قضبان السكة الحديد المستوية المتجهة للأمام، هي سكة حديد متخيلة، تهبط بنا الى جهنم.

Labels: