Friday, February 24, 2006

قصة منى أو الجانب الآخر من السور


أحاول أن أسترجع أولى ذكرياتي مع منى؛ كانت شابة وكنت طفلة صغيرة. كنت أتطلع إليها وكانت زياراتها لي مع والدتها، داده هانم، مثل أيام العيد؛ أنتظرها لأيام وتمضي سريعة ولا تخلو من لحظات الحزن. كانت منى جميلة ورشيقة، وجهها مستدير فعلا كالبدر في تمامه، شعرها ناعم وطويل وعيناها كبيرة. كانت تأتي تلعب معي وكانت أكبر مني. أتذكر مرة كنت ألعب لعبة الألبوم، لعبة من إختراع ماما (أم هي لعبة يلعبها كل الأطفال؟) كانت ماما تعطيني مجلاتها القديمة وكان عندي مقصي الخاص بي وكراسات رسم فارغة. كنت أقص صور الأطفال من مجلات ماما وأرسم فوقها وألصقها في كراسة الرسم فتصبح ألبوماً لصور الأطفال. كنت أفضل صور الأطفال الرضع، الذين هم أصغر مني سناً. نهرتني منى مرة وقالت لي أنه لا يجب أن أمزق المجلات ولكن ماما قالت أن ذلك مسموح لأنها فرغت من قراءتها. منى عادت وإعترضت على فكرة رسم الآدميين. تجاهلتها، أعتقد أن النظرية كانت صعبة عليّ ثم إنني كنت ومازلت أحب صور الأطفال الرضع.

أتذكر أنني إكتشفت ذات ظهيرة صيفية، وكانت ستائر غرفتي مسدلة لحجب الشمس، أن منى لا تستطيع القراءة. كانت أول شخص بالغ، أكبر مني، أعرفه لا يستطيع أن يقرأ ويكتب. واللحظة التي شرحت لي فيها ذلك كانت لحظة مقلقة. شعرت أن جهلها بالقراءة والكتابة — أميتها إن شئت — ليس شيئا عادياً. هل شاب إعترافها نوع من الخجل؟ ربما. أذكر أنني أسرعت بالبحث عن حل يرضي جميع الأطراف. في العام المقبل أذهب الى المدرسة حيث سأتعلم القراءة والكتابة، وبالطبع لم أتصور أن التعلم عملية، كنت أظن أنه شئ سهل، سأتعلم الكتابة في يوم على الأكثر، وحين ذاك أُعَّلِم منى. بسيطة. وإتفقت معها على ذلك. في ذاكرتي أنني حاولت: لا أعلم إن كانت ذكرى حقيقية أم لا. ولكنني أذكر أنني إنتظرت موضوع المدرسة هذا ثم عندما زارتني حاولت أن أعلمها. بدأت بتعليمها الحروف بالإنجليزية: لم يدم درسنا أكثر من خمسة دقائق... إحدانا ملَّت أو خجلت.

لا أتذكر بالضبط متى حلت منى محل أمها، وأصبحت تأتي كل يوم. وكان ذلك شيئاً جميلاً.

في يوم سبت جاءت منى من الأجازة وكانت أمي في البلكونة، وأخذت تروي منى لأمي قصة ذهابها لدكتور ما، كان يخبط بشاكوش على ركبتها ثم يقرأ شيئاً ما عليها. قالت أنه دكتور وماما أصرت أنه ليس دكتوراً. كانت تعاني من شئ اسمه الروماتويد. وظهر على وجه أمي القلق مع عدم الموافقة على ذهاب منى لهذا الدكتور بالذات، لماذا لا تتبع علاج طبيب القصر العيني، ذلك الطبيب (الطبيبة؟) الذي رشح عن طريق ابنة خالتي؟

مضت الأيام سريعاً، ذهبت الى المدرسة ولم تعد منى تجئ كثيراً. تزوجت منى من شاب اسمه أحمد. بجد، لا أمزح معك. اسمه أحمد. منىىىىىىىىىىىىىىىىى أحمااااااااااااااااااااااااااااااااااد، هكذا. كانت سعيدة. اختفت منى من حياتنا. أخذنا صور في البلكونة قبل ان تذهب. وعادت منى مرة أخرى مثل الاعياد: تزورنا كل سنة مرة. أصبحت تأتي في يوم عيد ميلادي تقضيه كله معي وتنتظر حتى الحفلة والكعكة والشمع. ثم أنجبت طفلاً. وغابت عنا. عادت منى في يوم تزورنا من دون موعد. كانت الدنيا شتاء وكنت في الاعدادي. لم أعرفها. دخلتُ المطبخ ولم أعرفها وكان تشرب الشاي مع أمي وتتحادثان. هرمت منى فجأة، ولم تعد أطول مني. أصبحت امرأة قصيرة، رفيعة، مطوية كبطانية على طرف السرير. دخلت غرفتي أبكي ثم أسرعت نحو الدولاب. جاءت أمي وقلت لها أنني أريد أن أعطي منى بعض الملابس. ووافقت أمي. تذكرت طقماً شتوياً مكون من بلوفر مزركش ملوَّن وجونلة سوداء وبلوفرات أخرى. كنت أريد أن أعطي منى بعض مما عندي، ليس موضوع ملابس وإن كانت الشئ المادي الوحيد الذي فكرت فيه يومها. أردت أن أعطيها من نفسي، أن أخفف عنها، أو ربما أن أعطيها من حظي الأفضل من حظها الذي لم أكتسبه بأي شكل وبالتالي لم أستحقه بصفة خاصة. كانت تحكي لأمي مآسيها. العلاج والطواف حول الأطباء وعياداتهم. وقلة الحيلة. العلاج غالٍ، مطلوب عملية. ولدها ضعيف، هزيل مثلها. حماتها تعايرها أنها لم تلد سواه. زوجها غير مستقر في عمله. العلاج غالٍ. أختها الوحيدة تنازعها كثيراً.
الحياة صعبة.
مضت السنوات. كل مرة أرى منى أو أحادثها قلبي يتمزق. أذكر الفتاة الجميلة ذات الشعر الطويل الناعم والتطلعات أمامها. وأذكر الحياة الصعبة التي تعيشها والقصص التي ترويها لنفسها ليمر الزمن.
أحمد لا يعمل. أحمد يعمل على الأكثر شهر كل عام، متقطع. مهنته حائك ملابس رجالي ولا يريد أن يعمل بأي مهنة أخرى ولا يستمر في أي عمل أو ورشة أكثر من شهر أو إثنين. ولا يقبل فكرة أن يعمل في أي مهنة أو عمل آخر. والابن كبر. أنهى دراسته وحصل على شهادة ما، دبلوم ما. وهو الآن يعمل موظف في مخزن شركة في مدينة نصر. تقول أنه يعمل حتى وقت متأخر من كل ليلة في نفس هذا العمل ولكنهم لا يدفعون له أي "أوفر تايم". أحياناً أتصور أن <<مُوَفَّق>> (القدر سخريته بلا حدود، نعم، هكذا أسميا ابنهما، على أمل أن يوفقه الله. كله باذن الله) يكذب عليها ويتفادى الرجوع إلى المنزل في ساعة محترمة من اليوم هروباً من الغم والنكد والأب الذي لا يرحم ولا يترك رحمة ربنا. ولكنني مع حال العمل في القطاع الخاص، المرء لا يستغرب أي شئ، ساعات العمل وقانون العمل مصطلحات غير مُعتَرَف بها. موفق هو القائم بمعظم مصاريف المنزل، بما في ذلك علاج الأم ومصروف يد الأب، والباقي فضلة خيرك. أهل الخير كثيرون. الناس لبعضها. أم زينب، الجارة القديمة التي عزَّلت إلى منزل في الشارع الموازي منذ عدة سنوات، تأتي مرة في الأسبوع وتأخذ غسيل عائلة منى تغسله في غسالتها وتعيده لها آخر النهار. وأم تامر تمسح لها الأرض والحمام كل عدة أيام. حنان، ابنة أم زينب الصغرى، تعمل في جمعية خيرية، ونجحت في أن تضع منى على قائمة المستفيدات من الجمعية، فتأتي لها بمائة جنيه كل ثلاثة أشهر. وقد نتصور أن الجيران يشتركون أيضاً في الطعام والقليل الذي يُنعِم الله به عليهم.
أخبار منى تتنوع. الأسبوع الماضي موفق كان على وشك أن يخطب فتاة. والأمر بدا مشهداً من الخيال. حاربت استغرابي ونزعتي العميقة إلى الاستهكام، هل يمكن أن أكون بهذا الشر؟ هل أغار لأن حظ موفق في الحب قد يكون أحسن من حظي؟ إخص عليَّ! فلأفرح لموفق ولأسعد لأن الخير مازال موجوداً في الدنيا. الدنيا لسه بخير. ففتاة موفق متعلمة، ومن أسرة ميسورة، والدها جزار على ما أعتقد، ولم يطلب منها أن تعمل بعد أن إنتهت من تعليمها المتوسط. وأسرتها وافقت أن تتزوج إبنتهم وتعيش هي وموفق مع منى وأحمد في شقتهم المتواضعة بل إن أسرتها ستشتري لها كل شئ، أثاث غرفة النوم وأشياء للمطبخ وإلخ، إلخ، كما أن أسرتها لن تطالب بمهر لأن موفق ليس لديه مال. هه! <<موفق قال لي يا ماما، إنت محتاجة حد يخدمك، وأنا بره طول النهار. أتجوز عشان يكون في حد معاك في البيت.>>

حادثتني منى الآن. <<الناس طلعوا وحشين وطمّاعين. أم البنت أصرت على خمس غوايش ذهب. قالت البنت لازم تبقى زي إخواتها. وبعدين عايزين طقم أنتريه جديد. وموفق كان قد قال أنه سيدهن حوائط غرفته ولكنهم الآن يريدون دهان لغرفة الجلوس أيضاً. وغسالة فول أوتوماتيك. >> لنا أن نتخيل أن عائلة غادة لا تريد <<أن ترمي البنت>> ويفكرون في تعليقات الأقارب والمعارف عندما يأتوا للتهنئة على الزواج. ماذا يقول عنهم الناس؟ باعوا بنتهم لتعمل خادمة عند أهل جوزها؟ رحل موفق ووالده على إتفاق باعادة اللقاء مع العائلة ولكنهما عندما وصلا إلى محطة الأتوبيس قال أحمد للحج محمد (الواسطة الذي ساهم في تعريفهم على أسرة غادة) إن الموضوع لن ينفع وليعتذر لأسرة الفتاة. <<لقد عرضنا ما في إستطاعتنا ولن نستطيع أن نقدم المزيد.>>
والقهر في صوت منى مُرّ. <<والله لا أشكر في مُوَّفَق لأنه إبني. والله الولد كويس، ويعرف ربنا، وبيصلي في الجامع، وأخلاق، وكل الناس بتشكر فيه. بس هما الناس وحشينا معلهش مالوش حظ فيها. والله هو قال لي يا ماما أن بس كنت عايز أتجوز علشان خطرك، حد يخلي بالو منك. >>
أليس من حقها أن تفرح؟
أريد أن أُفرِّح منى. أريد أن أأخذ من حظي وأعطيها. مثل زمان. أرسل ما أستطيع إرساله ثم يتفتق ذهني على أن ما قد يساعد هذه الأسرة هو عمل الأب. لو عمل أحمد سيزيد دخلهم ويقلّ الضغط على موفق الذي قد يستطيع أن يدخر بعض المال الذي قد يساعده على الزواج في المستقبل. (لاحظ مرات تكرر لفظة "قد" في هذه الجملة...) وبالطبع في ذهني المثل المكرر علينا في الثقافة الرأسمالية البروتستانتية الى حد الغثيان: إعطي الرجل سمكة، تطعمه ليوم. عَلِّم الرجل الصيد، تطعمه طوال العمر.>> نفس الأفكار التي يسميها أحد الوعاظ الآن التنمية بالايمان. حسناً. أتذكر أن الأستاذ شعبان، الترزي الذي في آخر شارعنا، شكى لي منذ عدة أيام من عدم وجود عمال وصنايعة لديه في الورشة لذلك كل شئ يأخذ وقت أكثر وهو يبحث عن عمال. أعرض الفكرة على حسين (وهو من ضمن هَوِّياته المتعددة طباخ، ولكنه <<أكثر من مجرد طباخ>>) ويقابلني برفضه الأولي المعهود لأي فكرة أقترحها. <<خديجة>>، قال لي <<أحمد لا يريد أن يعمل. هكذا كان طوال عمره. لم أحكِ لك هذا من قبل، ولكن أتعرفين أن زوجتي، في شبابنا، باعت جزءاً من ذهبها، لكي تشتري لأحمد ماكينة خياطة لمساعدته هو ومنى؟>> بالطبع لم أكن أعلم. بل لم أعلم أن أم أمينة، زوجة حسين، الطباخ، صداقتها بمنى (التي عرفت حسين في السنوات التي حلت فيها مكان أمها في بيتنا) متينة هكذا. ثم ماذا حدث، سألته. <<لا شئ. لم يقبل أن يعمل على الماكينة. لا يريد أن يعمل من المنزل. هو أسطى صنايعي. وظلت الماكينة مركونة>>. ومنى حكت لي أن أحمد رفض أن يعمل في ورشة أخيه، وهو أيضاً ترزي، لأنه لا يحب أن يأمره أخوه. ولكن حسين أدهشني في الصباح التالي، لقد عمل بفكرتي وذهب لمحادثة عم شعبان الترزي الذي رحب بأن يأتيه عم حسين بحائك جديد للورشة. فقام حسين بمحادثة أحمد.
ماذا كان رد أحمد؟
<<يا شيخ، لا، شعبان ده سمعته إنه بخيل. ده بيدي الصنايعية بتوعه 300 جنيه في الأسبوع. وعلى إيه الهم؟>>
قالها لي حسين، والشهادة لله، لم يرفع حاجبيه أو أي شئ. قلت له: <<ولكن 300 جنيه تعني 1200 جنيه في الشهر. أليست 1200 جنيه في الشهر أفضل من صفر في الشهر؟>> كما ترون، أخلاقيات العمل البروتستانتية متأصلة في تفكيري.... ولكنه سؤال خَطَابي، لا يمكن الرد عليه.
رفع حسين كتفيه ولم يُعلِّق. نعمل ما في إستطاعتنا لمساعدة منى... ونُسلِّم بأن مشاكل الدنيا أكبر من مقدورنا على حلها.

1 Comments:

Blogger Eman M said...

منى مالية البلد أصلاً :(
البلد فيها غلابة كتير أوى للأسف

Friday, March 03, 2006 5:33:00 PM  

Post a Comment

<< Home